القائمة الرئيسية

الصفحات

الميكروفون الذي يصرخ بصمت


بقلم / يحيى الرازحي 

وبعد ذهابي للعمل كالعادة ، وانتظاري لمخرج برنامج هموم الناس الذي يُبث على قناة عدن الفضائية من اليمن، تقدم إليَّ أحد الزملاء الإعلاميين الذي يعمل في قناة الإيمان الفضائية ،  حيّاني بحرارة ، وبادرني بابتسامة فيها الكثير من التقدير.

قال لي " أخي ، أنا من المتابعين الدائمين لبرنامجكم ، ما شاء الله تطرحون مواضيع تمسّ حياة الناس الحقيقية.

 لكن… لماذا لا تناقشون همومنا نحن الإعلاميين؟ التي نراها كل يوم تتزايد دون حل؟

أخذت نفساً عميقاً ، نظرت إليه ، ثم قلت "يا صديقي ، همومنا كثيرة ، ولا تكفيها حلقة أو اثنتان بل تحتاج إلى مواسم كاملة.

 دعني أقرأ عليك شيئاً كتبته قبل أيام ، قصة قصيرة من الواقع ، من همومي أنا كإعلامي ، فتحت هاتفي ، وبصوت منخفض قرأت عليه .

خرجتُ اليوم أجرّ أذيال الخيبة ، كأي إعلامي يمني لم يعد يملك سوى صوته وبعض الصبر ، لم أستطع أن أملأ حتى لتراً واحداً من الوقود لسيارتي ، لا لأجل نزهة ، بل فقط لأصل إلى مقر عملي ، ذلك المكان الذي تحوّل إلى ساحة نضال يومي في وطن يواجه قوى الأستكبار .

انتظرتُ طويلاً زميلي المخرج ، الذي اعتاد أن يتأخر كعادة كل شيء في بلادي ، بدأت الحلقة بصوت مُرتجف خلف ابتسامة باهتة ، ألقيتُ التحية وفتحت باب الاتصالات للمواطنين ، لأكون معهم على الهواء كما عودتهم... أن نستمع لشكواهم ، ونبث أحلامهم المؤجلة .

لكن فجأة، تلعثمت ، تذكرت أنني أنا الآخر أحمل هماً يضيق به صدري ، لم أستطع أن أجد قطرة بترول ، ولا أملك أجرة الطريق ، والرصيف أصبح مقعد الانتظار الوحيد لأحلامي، وماهي الا لحظات حتى سمعنا اصوات الانفجارات ، واستهداف طيران العدو الإسرائيلي للأعيان المدنية في صنعاء الصمود والتحدي ، كان القصف يتعالى في المكان ، والزملاء يركضون مرعوبين من استهداف محتمل ، كأن الاستوديو تحول إلى خندق ، وكأن الميكروفون فقد وظيفته... لا ليبث صوتاً ، بل ليسجل وجعاً .

في تلك اللحظة ، لم أعد أفرّق بين همي وهم المواطن صرنا واحداً ، نتشارك نفس الخوف ، ونحمل ذات الوجع ، نعيش في وطن صار فيه الإعلامي والمواطن والطفل والجندي... مشاريع شهداء مؤجلة.

وفي اليوم التالي أحد المتصلين قال لي بحزن ، نحس فيكم يا أستاذ... أنتم لستم وحدكم ، كلماته كانت كالضماد على جرح مفتوح ، بعد حديثه معي أدركت إني احمل رسالة وهموم ولابد أن أكمل ما بدأت به رغم الهموم التي أمر بها ، لأن صوتي آخر ما تبقى لي ، ولأن الكلمة في اليمن لم تعد ترفاً ، بل في ظل العدوان أصبحت مقاومة.

ورغم كل شيء ، ورغم التعب ، ورغم كل أصوات الانفجارات حولي ، لم يكن كل ذلك شيئاً أمام مايعيشه إخوتنا في غزة... نعم ، نحن نتعرض للعدوان ، لكن كل ذلك رخيصا إذا كان في سبيل نصرة المستضعفين هناك في غزة ، وفي لحظة ، تذكرت تصريحات رئيس امريكا ترامب حين أعلن الهزيمة ، حينها قلت لهمومي ، سأنساك الآن ، لأن هناك جرحاً في غزة ، وهناك شهداء يسكنون ترابها ، وهناك أطفال يبحثون عن ظل وطن في حضن الدمار.

عُدت إلى الميكروفون... نظرت إلى الكاميرا ، وقلت "نحن هنا، لننقل الصوت ، لا لنشتكي... ولن ننسى غزة.

أنهَيت القصة ، نظرت إلى صديقي … كان صامتاً ، ثم قال "كتبتَ وجعنا كلّنا شكراً لك ، وطلب مني أن أرسل له هذه القصة.

ابتسمت، ومضيت نحوي كاميرتي… أبحث عن أمل أزرعه في كل مشاهدينا ، حتى لو كنت أنا بحاجة إليه.


تعليقات

التنقل السريع